اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك
شرح كتاب الحسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
23618 مشاهدة
بحث في أهمية الحسبة في إقامة الشرائع والتحذير من الشرك

ثم معلوم أيضا أن فروع الشرائع تعتبر من العبادات. وكذلك فروع الشرك تعتبر من المحرمات وتعتبر من المنكرات فتتبع ذلك في الاحتساب والأمر والنهي، فيقال: من دعا إلى التوحيد، دعا إلى الصلوات دعا إلى الصدقات، ودعا إلى الجماعات ودعا إلى الزكوات وأداء الواجبات فيها وأجل أداء النفقات المعنية، ودعا إلى حفظ الصيام والمحافظة عليه وحفظ الحج والعمرة وما يتصل بهما وحفظ الجهاد وما أشبهه، فإن هذا كله من فروع التوحيد ومن مكملاته؛ لأن هذه من أنواع العبادة التي تدخل فيما أمر الله به في قوله تعالى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
فهذه من العبادات يقال: إذا عرفنا أن التوحيد هو إخلاص العبادة فإننا نأمر بتكميل العبادات كلها وتحصيلها حتى يكون صادقا في أنه عَبَدَ الله تعالى بما شرعه وبما أمر به، ويضاف إلى ذلك أيضا العبادات المستحبة التي هي من جنس العبادات الواجبات فكلها داخلة في المعروف وتركها أو التساهل بها يؤدي إلى عدم الاهتمام بحق الله تعالى.
شرع الله تعالى الفرائض وشرع من جنسها نوافل، فقال تعالى في الترغيب في العبادات: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً هذا من النوافل يعني الزيادة في الدعاء تضرعا وخفية فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ هذا من الفرائض إخلاص الدين لله تعالى.
شرع الله تعالى جنس الصلوات خمس صلوات هذه من الفرائض، وشرع من جنسها نوافل، ومدح الذين يحبونها ويحسنونها والذين يتمسكون بها ويكثرون منها، مثل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا يعني جنس صلاة الليل وجنس النوافل النهارية والليلة.
نقول: إنها كلها من الأمر بالمعروف الأمر بها أمر بالمعروف لأنها مما يحبه الله تعالى ومن كمال عبادة الله وحده، فإذا عرفنا أن الفرائض التي أمرنا بها من جنسها نوافل نأمر بهذه ونأمر بهذه، وهكذا أيضا يقال في بقية الفرائض؛ يعني مثل فريضة الصلاة هناك صلوات مكتوبة، فريضة الزكاة هناك زكوات وصدقات غير مكتوبة يعني زائدة على ما هو فرض، ومثل فريضة الصيام يتقرب بجنسها وكذلك فرائض الذكر يتقرب بجنسها، والحاصل أن جنس هذه والمواظبة عليها من جنس ما يحبه الله تعالى وما يدعو إليه وما رغب فيه.
كذلك أيضا إذا عرفنا ما يتعلق بالمعروف فكذلك أيضا نعرف أن من جنس ذلك أيضا ما يتعلق بالمنكر؛ فإن المنكرات الشركيات والبدع والمعاصي والمحرمات من المآكل ومن المشارب وما أشبهها لا بد أن يتجنبها المسلم كلها.
فيبدأ مثلا بالنهي عن الشرك، ثم بعد ذلك يقال من تمام ذلك النهي عن البدع، ومن تمام ذلك النهي عن المعاصي فإن الشرك والتوحيد متضادان وإن البدع قادحة في عبادة المسلم قادحة فيها وسالبة لها ومبطلة لأجرها، وإن المعاصي منقصة لثوابها فلا يتم الاحتساب إلا بها كلها؛ يعني بترك البدع والمعاصي زيادة على ترك الشركيات.
فمعروف أن المعاصي متنوعة والبدع أيضا متعددة، ويقولون: إن البدع أحب إلى الشيطان من المعاصي لأن المبتدعة يتمسكون ببدعهم معتقدين أنهم على الصواب، وأن الحق في جانبهم، وأنهم أولى بأن يكونوا على الحق وعلى الدين.
فلأجل ذلك يُسعى كثيرا في النهي عن البدع والتحذير منها سواء البدع العقدية أو البدع العملية؛ يكثر الدعاة إلى أنواع البدع الاعتقادية.
فيوجد مثلا أن المعطلة الذين ينفون الصفات يدعون إلى بدعتهم، ويسمون من يدعو ومن يتمسك بالسنة كإثبات أسماء الله تعالى وصفاته يسمونهم حشوية ومجسمة وغثاء وغثرا ونوابت وما أشبه ذلك، جهاد هؤلاء ودعوتهم من أوجب الواجبات.
وكذلك أيضا الذين يسهلون أمر الذنوب ويدعون أن المعاصي لا تضر الموحد وهم الذين يسمون المرجئة، جهادهم دعوتهم والتحذير من عقيدتهم وإبطال شبهاتهم حتى لا تتمكن من النفوس.
كذلك أيضا الذين يكفِّرون بالذنوب ويخرجون المسلم ولو عاصيا من الإيمان بمجرد المعصية، وهم الخوارج أو الوعيدية ونحوهم، جهادهم أيضا واجب؛ بدعتهم بدعة كبيرة؛ وذلك لأنهم يؤيسون العصاة من التوبة ويكفرونهم ويستحلون دماءهم وأموالهم ويحكمون بتخليدهم في النار والعياذ بالله.
فلا شك أن جهادهم وأن دعوتهم من أوجب الواجبات، وهكذا يقال في بدعة الروافض وفي بدعة المتصوفة وفي بدعة القبوريين الغلاة في أهل القبور والأموات وما أشبههم، فإذا عرفنا أن الدعوة إلى الله تعالى التي هي دعوة الرسل جاءت بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، والدعوة إلى السنن والنهي عن البدع، والدعوة إلى الطاعات والنوافل والنهي عن المعاصي فإن علينا أن نحتسب ونأتي بما نقدر عليه من هذه الأمور؛ يعني نحتسب الدعوة إلى الله تعالى ونأمر بما نقدر عليه من الطاعات والعبادات، ونحافظ على ما نقدر عليه من السنن والنوافل، وأهم شيء الدعوة إلى ترك المعاصي والمحرمات التي كثرت وقل من ينتبه لها، بل وكثر الذين يدعون إليها ويحبذونها ويوسعون المجال فيها، وقلَّ من ينتبه لهم ويرد عليهم ويبطل دعاياتهم.